القدس عاصمة الثقافة

1
الثقافة لغةً مشتقة من الفعل الثلاثي ثقف، فيقال ثقف الشيء حذقه، ورجل ثقف أي حاذق، وتعني أيضا تسوية وتشذيب السيف أو الرمح.. كما ورد في لسان العرب.
أما الثقافة — اصطلاحا — ً فهي مفهوم واسع يعني التصور الشامل للعالم، ويتجسد في الجانبين المعنوي والمادي لمجتمع معين. كما يقول محمود أمين العالم. وأول من وضع تعريفاً شاملاً للثقافة هو العالم الأنثروبولوجي إدوارد تيلور سنة 1871 فقال: "الثقافة هي الكل الذي يشمل المعارف والمعتقدات والفنون والعادات والتقاليد التي يكتسبها الانسان كفرد ضمن المجتمع. وهي متغيرة متطورة وتراكمية عبر العصور". ومن منتجات الثقافة في أي مجتمع، مظاهر العمران واللغة والقوانين والفنون والآداب المدونة. ولكل ثقافة شخصية وهوية تميزها عن سواها وقواسم مشتركة مع غيرها من ثقافات العالم.
وحين نشير الى الثقافة العربية الاسلامية، فإن المفهوم يشمل ثقافتنا بجانبيها المعنوي والمادي، علاوة على تفاعلها مع الثقافات الأخرى، انطلاقا من معاني الآية الكريمة:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). صدق الله العظيم (سورة الحجرات- الآية 13).
إن التعاون والتفاعل مع الثقافات الأخرى يناقض ما ذهب إليه بعض دعاة صراع الحضارات، وأبرزهم هنتنجتون، فثقافتنا تستند إلى التفاعل الخلاق عبر العصور مع الحضارات الأخرى رغم قيام صراعات فرضت على أمتنا من خلال الغزو والاستعمار وما جرته على هذه الأمة من محن وكوارث. ويدحض المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مقولة صراع الحضارات ويمقتها لأنها تنطوي على مفهوم عنصري يتنافي مع تطلعات الإنسانية نحو المحبة والعدالة والسلام.
2
انطلقت فكرة العواصم الثقافية من المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية الذي أقامته الأمم المتحدة في المكسيك عام 1982، والذي أُقرّ فيه برنامج العقد العالمي للتنمية الثقافية (1988 — 1997) وقد تبنت المجموعة العربية في اليونسكو في عام 1995 مشروع إطلاق عاصمة ثقافية عربية. فأنشيء برنامج العاصمة الثقافية العربية.
أما في أوروبا، فقد انطلق تنفيذ برنامج الاحتفال "بالمدن" الثقافية في عام 1983 حين تم اختيار أثينا "مدينة" للثقافة الأوروبية. وقد ساهمت وزيرة الثقافة اليونانية ميلينا ميركوري في وضع البرنامج موضع التنفيذ، وقد كانت تعتقد أن الثقافة لا تقدر حق قدرها كما هو الحال بالنسبة للسياسة والاقتصاد، ودعت إلى جعل البرنامج وسيلة لتطوير المدن ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا. وبعد ذلك أصبح اسم البرنامج الاحتفال بعاصمة الثقافة الأوروبية.
وفي أمريكا، أنشئت منظمة العواصم الثقافية الأمريكية لتنفيذ البرنامج نفسه، مع مراعاة تعميق التعاون وإيجاد قواسم مشتركة بين العواصم في الأمريكتين واحترام التنوع الثقافي في القارة الأمريكية.
إن الاحتفال بالعواصم الثقافية بشكل عام يهدف الى تطوير العواصم الثقافية اجتماعيا واقتصاديا وثقافياً، والتعرف على نظرة العالم لتلك الدولة ولعاصمتها الثقافية وإبراز تراثها الثفافي، وإقامة جسور التواصل مع القارات وإجراء حوار ثقافي بين الشعوب يحترم مقومات الهوية الثقافية الوطنية ويراعي التنوع بين الحضارات على أساس وحدة القيم الجوهرية الانسانية.
3
وضمن هذا السياق، فإن الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية ينبغي أن يرسخ المفهوم العربي الاسلامي الانساني للتفاعل بين الحضارات. ويبرز التراث الفلسطيني والعربي والاسلامي المسيحي الذي تزخر به القدس. كما ينبغي أن يساهم الاحتفال في تطوير المدينة المقدسة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، ويكرسها كمدينة عربية فلسطينية، عاصمة لدولة فلسطين، ولكونها مهد الأنبياء وأرض الحضارات القديمة، مدينة السلام، وزهرة المدائن بمآذنها وقبابها وكنائسها وأسوارها وأسواقها وأبوابها العريقة وتاريخها العظيم.
4
والسؤال الكبير هو: هل يمكن تحقيق هذه الاهداف والقدس تحت الاحتلال؟ لقد حالت السلطات الصهيونية دون افتتاح نشاطات وبرامج "القدس عاصمة الثقافة العربية" فأصبحت العواصم العربية والإسلامية — ومن بينها عمان والدوحة وغيرهما — هي القدس، الى حين عودة القدس، عاصمة عربية لفلسطين. لقد جرى الاحتفال الافتتاحي الرسمي لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية 2009 في مدينة بيت لحم وقد منعت شرطة الاحتلال الاسرائيلي إقامة أي نشاط فلسطيني في مدينة القدس الشرقية المحتلة!
من المعروف والمستنكر، أن العدو الصهيوني أعلن القدس عاصمة موحدة وأبدية للدولة اليهودية. وهو ينفذ منذ عام 1949، حملة واسعة ومنظمة لتهويد القدس وتغيير هويتها العربية وملامح وجهها الحضاري والتاريخي والتراثي الاسلامي والمسيحي، وتهميش الوجود الفلسطيني في المدينة، وتذويب الأحياء الفلسطينية في البلدة القديمة وفي محيطها من خلال التوسع الاستيطاني المتغوّل والاستيلاء على العقارات وبناء الجدر وتدمير المنازل ووسائل الطرد الأخرى، وحذف الاسماء العربية من شوارعها.
5
وفي هذا المجال احذر كما حذر أئمة فلسطين والمسلمين من مخططات العدو الصهيوني إزاء القدس، ومن خطر انهيار المسجد الاقصى من جراء الحفريات الاسرائيلية الجارية اسفل المسجد والصخرة المشرفة. وأرجو أن، تكون هناك حياة في كل من ندعو وننادي!
لقد قاومت القدس على مرّ التاريخ أربعاً وعشرين محاولة تدمير، وصمدت ولا بد لها من أن تظل صامدة ومقاومة ولا بد من أن نقاوم معها كل محاولات تغيير هويتها وملامحها. ويجب أن تكون ثقافة المقاومة المشروعة إنسانيا ودوليا جزءاً من برامج ونشاطات الاحتفال بالقدس عاصمة الثقافة العربية، فثقافة أمتنا العربية والإسلامية تقوم على أسس الحرية والكرامة والتمسك بالحقوق، وتحقيق السلام القائم على العدل..